صراع الهَوية والهُوية.. ميراث يُثقِل كاهل أبناء المهاجرين الحيارى بين الاندماج والولاء

0
66

في عالم التعايش وتناقضاته، حالة من القلق والتفكير المتواصل يعيشها المهاجرون في فرنسا، في ظلّ الصراع الذي يعيشونه بمعية أبنائهم، بين رحلة الاندماج في مجتمعهم الفرنسي والأوروبي، والتمسك بهويتهم ودينهم وبلدهم الأصلي وأفكارهم التي حملوها معهم، حيث يعيش الأطفال بمعية آبائهم تحديات عدة في جوانب تشمل الأمور القانونية والثقافية، الاجتماعية والدينية التي يواجهونها في حياتهم اليومية، مثل رحلة التعليم في المدارس الفرنسية، والتوجه نحو تعلّم اللغة العربية، أو حفظ القرآن، فيما يصطدمون بمشاكل عدّة كالجدل المثار حول العباية، والمثلية الجنسية، بالإضافة إلى الصراع الداخلي لدى الآباء حول تسميتهم كمهاجرين أو فرنسيين من أصول مهاجرة.

يعيش الأطفال الذي ولدوا في فرنسا من أبوين مهاجرين في مفترق طرق بين الاندماج في المجتمع الفرنسي والتمسك بثقافتهم ودينهم الأصليين، يتطلب التوفيق بين هذين العالمين فهمًا عميقًا للتحديات القانونية، الثقافية، الاجتماعية، والدينية التي يواجهونها، والبحث عن سبل للتعايش والاندماج دون فقدان الهوية.

 

 

التحديات القانونية والسياسية

في فرنسا، تنشأ تحديات قانونية متعددة للمهاجرين، خصوصا العرب والمسلمين، بما في ذلك مشروع قانون يميني للهجرة يشكل تهديدًا للأجانب وعائلاتهم، هذا القانون يعكس التوجهات السياسية التي قد تؤثر على الأطفال المولودين في فرنسا من أبوين مهاجرين، خاصة فيما يتعلق بالحقوق الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، ومن بين التغييرات المحددة في القانون، يمكن للأجانب العاملين الاستفادة من المعونة لدفع تكاليف السكن(APL) بعد 3 أشهر من وصولهم إلى فرنسا، أما الأجانب غير العاملين فلا يتأثرون بهذه القيود الجديدة، كما يتم تخفيض مدة المساعدة الطبية الحكومية للعاملين إلى 30 شهراً، ولن تتأثر مساعدات الأشخاص ذوي الإعاقة بهذا الإجراء، بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأجانب القاصرين الذين تقل أعمارهم أن يحظوا بأوراق الإقامة لمدة عام قابلة للتمديد، ويشكل مشروع القانون الجديد انقسامات داخل الأحزاب الفرنسية، حيث أنه قد يجعل الوصول غير المشروط إلى الرعاية الصحية والسكن صعبا على المهاجرين، حيث يتأثر الآباء والمعيلون بشكل لافت.

عن الظروف اليومية التي ترافق المهاجرين، تحدثنا مع أستاذ العلوم السياسية بجامعة باريس 2، محمد بن خروف الذي قال إنّه يجب على المهاجرين وأبنائهم المولودين في فرنسا أن يبحثوا عن طرق للتعايش والاندماج دون فقدان الهوية الأصلية، وفي الوقت نفسه احترام البلد الذي ولدوا فيه أو حصلوا على وثائق الإقامة فيه، وذلك عن طريق التعامل مع التحديات القانونية بطريقة محترفة وملتزمة، وقال إنه بينما يجب على المهاجرين الاندماج في المجتمع الفرنسي، فعليهم أن يحافظوا على حقوقهم الأساسية ويبحثوا عن سبل للتوازن بين المجتمع الفرنسي والأوروبي والثقافة والدين، وفي نهاية المطاف، يمكن أن يكون هذا التوازن الحسن فرصة لأطفال المهاجرين للتعلم والنمو في مجتمعين مختلفين، ويساعدهم على التعامل مع التعددية الثقافية والدينية بطريقة جذابة ومحترفة، ويساعدهم على التعامل مع التحديات المتعلقة بالحقوق الأساسية بطريقة سلسة، لأنّ اليمين المتطرف يرغب دائما في ملئ سلة المهاجرين المطرودين من فرنسا.

 

عقبات أمام الاندماج الثقافي والاجتماعي

أظهرت دراسة حديثة نشرتها صحيفة لوموند الفرنسية نهاية عام 2023 أنّ المهاجرين في فرنسا يختارون أسماء “عالمية” لأبنائهم لتسهيل الاندماج في المجتمع، وهذا يشير إلى رغبة الأسر المهاجرة في التكيّف مع المجتمع الفرنسي، مع الحفاظ على جزء من هويتهم الثقافية والدينية، فيما يحافظ آخرون على الأسماء العربية والإسلامية، ويحاربون من أجل التمسك بأصولهم وتقاليدهم وهويتهم، رغم الصعوبات التي يواجهونها في مجتمع فرنسي يشعون أنه يراقبهم كلّ يوم، وللإجابة على عن مآلات هذا الصراع، تحدثنا مع الباحث المقيم في باريس محمد بن خروف، الذي أشار إلى أنّ التوجه نحو الأسماء العربية يغلب الغربة في طمسها من قبل بعض الأسر، حيث استدل ببقاء الاسم محمد على رأس الأسماء المفضلة لدى العائلات المهاجرة من المسلمين، وقال إنّ التغيّر الذي يشهده العالم اليوم جعل مخاوف العائلات العربية والمسلمة تتضاءل نسبيا، خصوصا مع إقبالهم كل عام على قضاء العطل الصيفية في البلد الأم، رغم غلاء تذاكر السفر والمعيشة بشكل عام.

 

 


مؤسسة غرناطة للتعليم.. غرس للقيم واللغة والدين

 في بلدة شوازي لوروا بالعاصمة الفرنسية باريس توجد مؤسسة غرناطة للنشر والتعليم والخدمات التربوية والتي تُعنى أيضا بتدريس اللغة العربية والقرآن الكريم، حيث بدأ القائمون على هذا الصراح التعليمي عملهم قبل 20 عاما، يقول مديرها السيد رضا الرجيبي إنّ مدرسة غرناطة أصبحت اليوم بمثابة نموذج لشبكة كاملة من المدارس ومؤسسات تعليم اللغة العربية.

 

يؤكد الرجيبي على ضرورة مواصلة العائلات المسلمة متابعة أبنائهم في بيئة عربية ومسلمة سليمة تمنح الأطفال أدوات تنير عقولهم وتجعلهم روادا للأعمال مستقبلا، برصيد لغوي وديني ينير طريقهم، عبر تعزيز العاطفة والابتكار والسعي نحو التميز، وقال الرجيبي إنّ الإقبال على التسجيل في مدرسة غرناطة يتزايد عاما بعد عام، لافتا إلى أنّ الآباء يحصرون دائما على متابعة مسار أبنائهم فيما يتعلق باللغة العربية، مؤكدا بأنّ الأولياء يلاحظون تحسنا واضحا لأبنائهم بعد كل مساق تعليمي، متحدثا أيضا عن وجود تلاميذ مميزين كل عام، وأنّ من يتخرجون من المدرسة يصبحون قادرين على الكتابة والتعبير وحتى التأليف.

 

صراع تمثيل المنتخب.. يجاور أحاديث اللاعبين الصغار

 في دراسة عن الاندماج الثقافي في فرنسا، تشير الباحثة فاطمة بوزيد إلى أنّ الأطفال المهجرين يواجهون تحديات في الاندماج والتمسك بهويتهم الأصلية، مشيرة إلى أنّ صغار المهاجرين يجب أن يتعلموا كيفية التعامل مع التناقضات التي تواجههم بين الثقافة الأصلية والثقافة الفرنسية، وقالت إنّ الرياضة وخاصةً كرة القدم تشكل تجاربًا هامة للأطفال المهجرين في الاندماج والتمسك بهويتهم، وإنّ الرياضة تعمل على تعزيز الهوية الجماعية والشخصية للأطفال، وتساعدهم على التعامل مع التناقضات الثقافية، في بيئة مختلفة.

في أكاديمية تييه في الضاحية الرابعة والتسعين بباريس، التقينا المربي والمسؤول عن الفئات الشبابية في نادي تييه لكرة القدم، حبيب الجميلي، الذي أشار إلى نقطة تمسك العديد من اللاعبين الصغار من أصول مختلفة ببلدهم الأم، وخصوصا أولائك المنحدرين من الوطن العربي، أين يأتون في بداية انضمامهم إلى النادي بأقمصة منتخبات عدة، كتونس والجزائر والمغرب وسوريا ومالي على سبيل المثال، لكنه يؤكد أنّ الجميع يمتثل لقانون اللباس الموحد للنادي لاحقا، سواءً في التدريبات أو المباريات، كما أشار إلى حديث اللاعبين منذ سن مبكرة عن المفاضلة بين منتخب فرنسا ومنتخب بلدهم الأصلي، رغم أنّ الخطوة سابقة لأوانها، لكنّها دليل كما قال على الصراع التي يعيشه الآباء والأبناء بين انتماء الأسرة للوطن الأم والحفاظ على قوعد الاندماج في المجتمع الفرنسي، لأنهم فرنسيون من أصول مهاجرة، كما يرددون.

 

 

مسجد كريتاي.. فصول ممتلئة لحفظ القرآن الكريم

التقينا بالإمام الشيخ إلياس بمسجد كريتاي في العاصمة باريس، والذي حدثنا عن تهافت الأسر العربية والأفريقية على المسجد لتسجيل أبنائهم في الفصول الدراسية الخاصة باللغة العربية وأيضا القرآن الكريم، حفظا وتعلما للأحكام، وقال إنّ المدرسة القرآنية تشهد توافد ما يقرب من 800 شخص ليسجلوا أبناءهم، خلال شهري ماي وجوان من كل عام، وإنّ القاعات الدراسية للمسجد تستقبل كل عام نحو 160 طفلا أسبوعيا، ضمن مناهج القرآن والأحاديث واللغة العربية والفقه والسيرة النبوية، وأوعز الشيخ إلياس الإقبال الكثيف للجالية المسلمة في فرنسا على تعليم أبنائهم العربية والقرآن إلى رغبتهم في غرس قيم الدين الإسلامي في أبنائهم، وكي يتعلموا أيضا اللغة العربية كلغة ثانية بعد الفرنسية،  كما تحدث أيضا عن رغبة الآباء في غرس ثقافة المسلم المندمج في فرنسا، لينشر الأخلاق الحميدة أين وجد، حيث يأتون بهم إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة خلال العطل، ويحرصون على وجودهم في صلاتي العيد كلّ عام.

 

قلق يلف العباية والمثلية الجنسية

 في فرنسا، تمّ حظر ارتداء العباءة (الحجاب الكامل) والقمصان الطويلة في المدارس، وقد أصبح موضوعًا محرجًا ومتعلقًا بالعلمانية والاستهداف الثقافي والديني، ففي بداية العام الدراسي الجديد تم تنفيذ قرار حظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة في المدارس الفرنسية بعد أن أقرّه وزير التربية السابق ورئيس الوزراء الحالي غابرييل أتال، فيما أعلن مجلس الدولة تأييده للقرار ورفضه طلبا لإصدار أمر قضائي ضدّ الحظر.

يرفض المسلمون في فرنسا تعبير الحكومة على العباءة والقمصان الطويلة كرموز دينية، بينما ذهب آخرين لاعتبارها من الرموز الثقافية التي تُرتدى من قبل غير المسلمين وخاصة الأفارقة، فيما أضحى العباية والمثلية الجنسية من المواضيع الحساسة التي ترافق يوميات الجالية المسلمة بفرنسا، فالعباءة رمز للهوية الإسلامية، والمثلية الجنسية خط أحمر لدى كثير من المسلمين، حيث تعكسان التحديات التي يواجهها الأطفال والشباب المسلمون في التوفيق بين هويتهم الدينية والثقافية والمعايير الاجتماعية الفرنسية.

 

 

بحسرة كبيرة تخلع مريم حجابها أمام الثانوية

 التقينا الشابة المغربية مريم، التي تبلغ من العمر 16 عاما وتدرس في السنة الأولى بثانوية فرنسية في مدينة ليون في جنوب شرق فرنسا، تقول إنّها رفضت مواصلة الدراسة من دون عباءة في بداية العام الدراسي وغابت عن ثانويتها لأسبوع كامل، لكنها عادة مكرهة إلى فصلها الدراسي، حيث  تخلع العباءة كل يوم بألم وحسرة كبيرين كما قالت، وهي التي تخلع أيضا خمارها أمام باب الثانوية منذ سنوات، بسبب القوانين الفرنسية التي تمنع ارتداء أيّ رموز أو ملابس دينية في المدارس الرسمية، كما عادت بنا مريم إلى الظروف المادية الصعبة التي تعيشها رفقة والدتها وشقيقها، بعد وفاة والدها قبل عامين، حيث كانت ترغب في مواصلة الدراسة بثانوية خاصة، تسمح للمحجّبات بالدراسة بكل حرية، مؤكدة بأنها ستغادر فرنسا للدراسة في بلد عربي بمجرد الحصول على شهادة الباكالوريا.

 

هاجس العودة أو الهجرة الثانية نحو بلد عربي 

الصراع الداخلي لدى الآباء حول ضرورة الهجرة نحو البلدان العربية أو العودة إلى بلدهم الأصلي يمثل جانبًا آخر من التحديات التي تواجه الأسر المهاجرة، هذا الصراع يعكس الرغبة في البحث عن بيئة تتوافق أكثر مع قيمهم وتقاليدهم، حيث قال لنا السيد عمار وهو ربّ أسرة جزائري لعائلة مكونة من 5 أشخاص، إنّه عاد إلى الجزائر بعد فترة قضاها في فرنسا، حيث استقر بالفعل في الجزائر العاصمة مجددا، لمدة 3 سنوات، لكنّ مرض زوجته قبل عام حتّم عليه العودة إلى فرنسا لمباشرة علاجها، مؤكدا بأنّه رجع إلى الجزائر لحماية أبنائهم من لسعات الأفكار الهدامة على حدّ تعبيره، حيث تحدث عن مباشرة أبنائه حفظ القرآن الكريم في أحد مساجد الجزائر العاصمة، لكنهم انقطعوا لفترة بسبب العودة إلى فرنسا، حيث قال إنّه يفكر في العودة مجددا بعد شفاء زوجته، لأنه يشعر أنّ مغترب وغريب في المجتمع الفرنسي.

 

فوزي بن جامع – باريس

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا